HTML مخصص
إنتقال مريم المغبوط (١)


مريم في حجرتها الصغيرة المنعزلة، المبنية على الشرفة، لابسةً كلّها كتّان أبيض....

إنها ترتِّب ثيابها وثياب يسوع، التي احتفظت بها دوماً. 

تختار الافضل.

هناك قليلٌ منها.

 من ثيابها تأخذ الثوب والرداء اللذين كانا عليها فوق الجلجلة، من ثياب إبنها، ثوباً كتّانيّاً كان يلبسه عادةً صيفاً، والرداء الذي عُثِر عليه في جتسماني، والذي لا يزال مُلطّخاً بالدم الذي سال. العرَق الدامي لتلك الساعة الرهيبة.


بعدما طوَت بعناية تلك الثياب، وقبّلت رداء يسوعها المُلطّخ دماً، تتجه نحو الصندوق حيث ذخائر العشاء السرّي الأخير والآلام، مُجمّعةً ومحفوظة، منذ أعوام.

تجمع كلّ شيء في جزء واحد، الجزء العلوي، وتضع الثياب في الجزء السفلي.


إنها منشغلة بإقفال الصندوق حين يجعلها يوحنا تستدير وهو يسألها وقد صعد من دون ضجيجٍ الى الشرفة حيث لا بدّ انها صعدت لقضاء ساعات الصبحية، وتقدّم لينظر إلى ما كانت تفعله مريم، ربّما مُتأثِّراً بغيابها الطويل عن المطبخ: "ماذا تفعلين يا أمي؟"


"رتّبتُ كل ما يُستحسن الحِفاظ عليه. كلّ الذكريات....... كلّ ما يشهد على حبِّه وألمه اللامُتناهيين."


"لِم يا أمي، إعادة فتح جروح قلبك برؤية تلك الأشياء المُحزِنة ثانيةً؟ أنتِ شاحِبة، ويدك ترتجف ....تتألمين إذاً لرؤيتها"، يقول لها يوحنا مُقترِباً منها، كأنه كان يخاف انها سوف تشعر بسوءٍ وتسقط أرضاً، وهي شاحِبة ومرتجفة كما هي.


"آه ! لا، ليس لذلك أنا شاحِبة وأرتجِف. ليس لأن جروحي تنفتح ثانية ً... في الحقيقة، انها لم تندمل أبداً تماماً. إنما فيّ أيضاً السلام والفرح، ولم يكونا ابداً كامِلَين كما الآن".


" أبداً كما الآن ؟ لا أفهم.... لديّ انا، رؤية تلك الأشياء الملأى ذكريات فظيعة، توقِظُ جزعَ تلك الساعات. وأنا، لست سوى تلميذ. أنتِ، انتِ الأم ...."


"وبهذه الصِفة، كان عليّ ان أتألم اكثر، تقصِد. بشريّاً تقول الحقّ، لكن الامر ليس كذلك. إنني معتادة تحمُّلَ ألم الفراقات عنه. كان ذلك دوماً ألماً ، لأن حضوره وجواره كانا جنّتي على الارض........ كنت أتألم حين كان يفارقني للذهاب عبر العالم الذي كان مُعادياً له، وخاطئاً الى حد ان العيش فيه كان له عذاباً. إنما أيّ فرحٍ حين كان يعود إليّ!... محزناً كان ألم الفراق الذي تلى موته، إنما بأيِّ كلماتٍ يمكنني ان أفصِح عن الفرح الذي شعرت به حين ظهر لي قائماً من الموت؟ هائلٌ الم الفراق بسبب صعودِه الى الآب،  الذي يُفترض ألّا يتم إلا حين تكون حياتي الأرضية قد تمّت. الآن انا في الفرح ، فرح هائل كما كان الألم هائلاً، لأنني أشعر بأنني أتممت حياتي. فعلت ما كان عليّ ان أفعل. أتممت مُهمّتي الأرضية. الأخرى، السماويّة، لن تكون لها نهاية. الله تركني على الارض حتى أكون قد أتممت أنا ايضاً ، كما يسوعي، كلّ ما عليّ أن أتمّ. وفيَّ ذلك الفرح الخفيّ، قطرةُ البلسم الوحيدة في أحزانِه العميقة الأخيرة الملأى مرارة، التي عاناها يسوع حين استطاع أن يقول: "كلّ شيء قد تم"ّ.


"فرح في يسوع؟ في هذه الساعة؟" 


 "نعم ، يا يوحنا. فرحٌ لا يدركه البشر، إنما تدركه العقول التي تحيا في نور الله، والتي ترى الأشياء العميقة المخفيّة تحت الحُجُب التي ينشرها الخالق فوق أسراره الملكية، بفضل ذلك النور ."


( الانجيل كما كشف لي- ١٠- فالتورتا).   يتبع....

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.