HTML مخصص
21 Aug
21Aug

في القراءة الأولى من الأحد الثاني عشر من زمن العنصرة ترد قصة راعوت وهي قصة جميلة من الكتاب المقدّس تحكي عن الكنّة الغريبة التي رفضت أن تعود إلى شعبها وآلهتها بعد وفاة زوجها، لم تترك حماتها نُعمي مثلما فعلت سلفتها التي عادت الى أرضها وشعبها، بل لازمتها في مسيرة العودة من أرض الغربة، أرض الامم الى أرض يهوذا "فإنّي حَيْثُمَا ذَهَبْتِ أَذْهَبُ وَحَيْثُمَا بِتِّ أَبِيتُ، شَعْبُكِ شَعْبِي وَإِلَهُكِ إِلَهِي وحَيْثُمَا تَموتي أَمُت وَهُنَاكَ أُدْفَنُ."


غيّرت راعوت الغريبة بطيبتها والتزامها ومحبتها اعتقاد حماتها وقلبت النحس الى نعمة والقلة والعوز الى بحبوحة وراحة وضمنت آخرة حماتها حين استطاعت أن تتزوج بوعز الوصي الثاني في العائلة وتقيم نسلاً لزوجها المتوفي ومن هذا النسل ينحدر داود ومن ثم يسوع.


وفي إنجيل اليوم ترد قصة المرأة الكنعانية وهي أيضاً من الامم وفي اعتقاد اليهود الراسخ أن لا خلاص لهم ويرددون في مجالسهم أنه لا «يَحْسُنُ أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ البَنِين، ويُلْقَى إِلى جِرَاءِ الكِلاب!» قال يسوع هذا المثل أمام التلاميذ الذين حفظوه عن ظهر قلبٍ وطالبوه متوسلين أن يصرفها لكنه أصرّ أن يعلمهم الدرس أنه أُرسل الى العالم أجمع وليس فقط "إِلى الخِرَافِ الضَّالَّةِ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيل" وأن الايمان موجود خارج أسوار إسرائيل والخلاص يشمل جميع الناس من كل الامم وليس اليهود فقط.


استطاع يسوع أن يتكلم علناً ما كان التلاميذ يُفكرون فيه سرّا واستطاع أن يُبرهن لهم أن الايمان يتخطى حدود الهيكل والخلاص نعمة من الله أبعد من حروف الشريعة وجعلهم يختبرون روعة القلوب المؤمنة عندما أعلنت المرأة الكنعانية وبالفم الملآن «نَعَم، يَا رَبّ! وجِرَاءُ الكِلابِ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الفُتَاتِ المُتَسَاقِطِ عَنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا».


بين هذين المشهدين يُعلن بولس عن "سر المسيح" لا بل أنه أسير للمسيح!!
فكيف يكون بولس أسير المسيح؟
ما هو تدبير نعمة الله التي وُهبت لبولس؟
ما هو السرّ المكتوم (سر المسيح) منذ الدهور الذي كشفه بولس؟
لماذا غيّر رأيه وتوجه الى الامم؟
ما هو سبب الضيقات التي تعرّض لها بولس؟
كيف يمكن للضيقات أن تكون سببّاً للمجد؟
هناك إشكالية كبيرة عاشها اليهود ولم يتعايشوا معها تعالجها القراءات الثلاث في الاحد الثاني عشر من زمن العنصرة.


في القراءات الثلاث يشير الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد الى مسألة خلاص الامم، لان الاعتقاد السائد في البيئة اليهودية أن لا خلاص سوى لليهود فهم شعب الله المختار والبنون الوارثون وبقية الامم أنجاسٌ كالكلاب لا خلاص لهم.


يعلن بولس منذ بداية اهتدائه على طريق دمشق أنه أصبح خليقة جديدة وهو للمسيح وفي المسيح ومع المسيح، سفيره في العالم، يُمثله في المجالس والمحاكم، يتمثّل بعقله وفكره وسلوكه وخياراته ومن أجله مات عن نفسه وخسر العالم بأسره ليربحه.


أصبح بولس أسير المسيح، أسير حبّه.


هو اليهودي الهوى والفريسي العقيدة تخلّى عن هويته التي تصنّف البشر بين مُخلّصين وهالكين، وعقيدته التي تُقدّس الحرف وتقتل الروح، وتبنّى مشروع يسوع، نادى به وبشّر به وذاق الضيقات من حبسٍ وجلدٍ وازدراء فأصبح رسول الامم بامتياز وهو لقبٌ يستحقه عن جدارة، واجه بطرس وبقية الرسل الذين كانوا لا يزالون يخشون الشريعة والناموس.


فهِم بولس أن الكنيسة عابرة للحدود والأعراق والجنسيات وهذا هو تدبير الله الذي أطاعه منذ حادثة اهتدائه على طريق دمشق ولقائه حنانيا، فالامم هم شركاء أيضاً بالخلاص وأعضاء في جسد المسيح ومتساوون مع اليهود وغيرهم في البنوة والميراث وربما يسبقونهم الى الملكوت.


"وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ"

(متى ٨ / ١١).



تحوّل بولس الى خادم إنجيل الامم وهي موهبة جديدة حوّلته من مضطهد للكنيسة الى مبشّر غيّور وسط بيئة مليئة بالاضطهادات، لكن الله أعطاه المواهب الكثيرة للصمود والاستمرار معترفاً أنه الاصغر بين القديسين "بِحَسَبِ هِبَةِ نِعْمَةِ اللهِ الَّتي وُهِبَتْ لي بِفِعْلِ قُدْرَتِهِ؛ لي أَنَا، أَصْغَرِ القِدِّيسِينَ جَمِيعًا" لكن الله أيّده بالقوة والقدرة لنجاح الرسالة بين الامم "أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لكِنَّ اللهَ كَانَ يُنْمِي" (١ قور ٣ / ٦)
نمت رسالة بولس بين الامم ووصلت الى أقاصي الارض واصبحت فوق الجبال والسهول والبحار وفوق الرئاسات والسلاطين، واعلن إنجيل المسيح بكل جرأة وكل ثقة وكل عزيمة للوصول الى الله والفوز باكليل المجد.
لكن لكل شيء ثمن والثمن الأغلى هو الثبات في الضيقات، ربما يكون الثبات أصعب ليس على متلقي العذابات والاضطهادات بل على المتلقين، لذلك طلب بولس منهم ألا تضعف عزيمتهم لانها ستكون مجداً لهم.

تلك الولادة الروحية تأتي بعد الاوجاع، فالاوجاع تزول أما الولادة فتستمر الى الابد. آمين.


أحد مبارك


/الخوري كامل كامل/

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.