HTML مخصص
28 Jan
28Jan

المحبّة هي الحلّ أبداً.

هي الألفا والأوميغا.

إنّها الله.

وبما أن الله خالق الأكوان هو المطلق، هو الحقّ والخير والجمال، هو أب البشريّة جمعاء، فهو يغار على كلّ واحد منـّا، نحن الأحبّ على قلبه، وبالتالي فإنـّه، وقد خلقنا على صورته ومثاله، يريدنا أن نتقدّس بل نتأله بمحبّتنا له، وهو الذي يطلب منا أن نجعل من ذواتنا هياكل للرّوح القدس، روح العطاء الذي يكتفي بذاته، روح الحريّة الحقيقيّة التي يهنأ بها الإنسان.

الله المحبّة، الكثير الرّحمة والأناة والصبر إنتظر طويلاً قبل أن ينفذ قراره العظيم أي افتداء البشريّة كلها بدم ابنه الوحيد محققاً مشروعه الخلاصيّ منذ ألفي سنة.. وقد هيّأ لهذا المشروع في العهد القديم من خلال نبوءات الأنبياء التي تمّت، وها هو صوت المصلوب يدوّي "لقد تمّ كلّ شيء"، ها هو القائم من بين الأموات، ربّنا وفادينا ومخلصنا، يشركنا في مجده في سرّ العماد المقدس وفي باقي أسرار الكنيسة، ها هو يكلّمنا في إنجيله، الذي به نخلص ونستحقّ دخول ملكوته..

لقد إفتدانا المسيح ليحرّرنا من عبوديّة الخطيئة، وهل أجمل من أن يبذل الإنسان ذاته من أجل الآخرين، وهل أعظم وأسمى من هذه التضحية التي تمثلت بقبول الله إهراق دم وحيده على صليب خشبيّ صار رمزاً للخير المنتصر على الشر، للحق الظافر على الباطل وللنور المسيطر على الظلام؟!

أقطفُ بضعة ثمارٍ من شجرة بولس الرّسول، وهي ممّا قدّمه إلينا في رسائل وجّهها إلى كنيسة غلاطية من جملة رسائله إلى الكنائس: "فالمسيح حرّرنا لنكون أحراراً. فاثبتوا، إذاً، ولا تعودوا إلى نير العبوديّة"... "وأما أعمال الجسد فهي ظاهرة، الزّنى والدّعارة والفجور وعبادة الأوثان والسِّحر والعداوة والشقاق والغيرة والغضب والدّسُّ والخصام والتحزّب والحَسد والسِّكر والعَربدة وما أشبه.

وأنبّهكم الآن، كما نبّهتكم من قبلُ، أنّ الذين يعملون هذه الأعمال لا يرثون ملكوت الله".

كلامٌ مختصرٌ مفيدٌ واضحٌ وصريحٌ، به رسم بولس خارطة الطريق إلى السّماء!

من رسالته الأولى إلى كنيسة كورنثوس أختارُ هذه الكلمات التي تضعنا أمام مسؤوليّتنا كمسيحيّين حقيقيّين، وهي التي تحدّد علاقتنا بالله: "أما تعرفون أنـّكم هيكل الله، وأنّ روح الله يسكن فيكم؟ فمن هدم هيكل الله هدمه الله، لأنّ هيكل الله مقدّس، وأنتم أنفسكم هذا الهيكل".

ويضيف: "ألا تعرفون أنّ أجسادكم هي هيكل الرّوح القدس الذي فيكم هبةً من الله؟ فما أنتم لأنفسكم، بل لله.

هو اشتراكم ودفع الثمن.

فمجّدوا الله إذاً في أجسادكم" لقد قبـِلـَنا الله على ما نحن عليه من وهنٍ وضعفٍ وتشتتٍ وتشرذمٍ وضياعٍ وامتهانٍ للقيم وتنكيلٍ بالمبادىء، وابتعادٍ عن الله نجَمَ عنه شرخ فظيع بينه جل جلاله وبين مخلوقاته البشريّة التي أمعنت تخريباً في المجتمع الإنسانيّ بل في الإنسان نفسه كفرد وكقيمة قائمة بحدّ ذاتها، تخريباً من شأنه سلخ المجتمع الإنسانيّ عن قلب الله المتألم جرّاء الوضع المأسويّ الذي يتخبّط في أوحاله من شذوا عن طريق الخير ليلتحقوا بمواكب الشـّر ليدمّروا أنفسهم في عالمه المظلم حيث "البكاء وصريف الأسنان".

بالرغم من عصيان الإنسان وتمرّده على خالقه، لا يزال الله ينتظر "الإبن الضال" ليعود إلى أحضانه مستغفراً نادماً تائباً متجدّداً...

كم وكم من أبناء ضالـّين لا يزالون تائهين في غياهب هذا العالم وظلماته ودهاليزه... ينتظر الله عودتهم إليه بحرارة الاشتياق، لأنّه يحبّهم!

على ضوء ما تقدّم قد نتمكّن من فهم فلسفة إخلاء الذّات حتـّى النهاية لافتداء الآخرين وهم الإخوة في المسيح وأعضاء حيّة في جسده السّرّيّ إلى أي دين أو طائفة أو مذهب أو مشرب أو فئة إنتموا!

وإنطلاقاً من هذا المفهوم الإنساني المقدّس، يمكننا ولوج موضوع قبول الآخر على أساس المحبّة التي، بحسب قول بولس الرّسول الذي أبدع أيما إبداع في كلامه عن المحبة: "لو تكلمت بلغات النّاس والملائكة، ولا محبّة عندي، فما أنا إلا نحاس يطنّ أو صنج يرنّ.

ولو وهبني الله النبوّة وكنت عارفاً كلّ سرِّ وكلّ علمٍ، ولي الإيمان الكامل أنقل به الجبال، ولا محبّة عندي، فما أنا بشيء.

ولو فرّقت جميع أموالي وسلّمت جسدي حتى أفتخرَ، ولا محبّة عندي، فما ينفعني شيء.

المحبّة تصبر وترفق، المحبّة لا تعرف الحسد والتفاخر ولا الكبرياء.
المحبّة لا تسيء التصرّف، ولا تطلب منفعتها، ولا تحتدّ ولا تظنّ السّوء.

المحبّة لا تفرح بالظـّلم، بل تفرح بالحقّ.

المحبّة تصفح عن كلّ شيء، وتصدّق كلّ شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كلّ شيء.المحبّة لا تزول أبداً.

أمّا النبوّات فتبطل والتكلم بلغات ينتهي.

والمعرفة أيضاً تبطل، لأنّ معرفتنا ناقصة ونبوّاتنا ناقصة.

فمتى جاء الكامل زال الناقص... والآن يبقى الإيمان والرّجاء والمحبّة، وأعظم هذه الثلاثة هي المحبّة".

هذه هي مسيحيّتنا، وهذا هو بولس رسول المسيح "أسير المسيح" كما يصف نفسه. هذا هو إيماننا، وماذا عسانا نكتب في المحبّة بعد ما كتبه بولس المعلـّم والمبشّر والذي عاش ما كتبه حتى الاستشهاد في سبيل سيّده وسيّدنا يسوع المسيح فادي البشريّة؟!



/سيمون حبيب صفير/

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.