HTML مخصص
12 Jul
12Jul
إعلان خاص

في مدينة أوروبية كنت أقف منتظراً دوري أمام شباك التذاكر لأشتري بطاقة سفر بالحافلة إلى مدينة تبعد حوالي ٣٣٠ كم.


وكانت أمامي سيدة ستينيّة تحول بيني وبين شباك التذاكر وطال حديثها مع الموظفة التي قالت لها في النهاية: الناس ينتظرون، أرجوكِ تنحّي جانباً !


فإبتعدت المرأة خطوة واحدة لتفسح لي المجال، وقبل أن أشتري بطاقتي سألتُ الموظفة عن المشكلة، فقالت لي بأنّ هذه المرأة معها ثمن بطاقة السفر وليس معها يورو واحد قيمة بطاقة دخول المحطة، وتريد أن تنتظر الحافلة خارج المحطة وهذا ممنوع.


قلتُ لها : هذا يورو وأعطها البطاقة، وتراجعتُ قليلاً وأعطيتُ السيّدة مجالاً لتعود إلى دورها بعد أن نادتها الموظفة مجدداً.


إشترت السيدة بطاقتها ووقفت جانباً وكأنها تنتظرني، فتوقعت أنها تريد أن تشكرني، إلاّ أنّها لم تفعل، بل إنتظرتْ لتطمئن إلى أنني إشتريت بطاقتي وسأتوجه إلى المحطة لركوب الحافله، وقالت لي بصيغة الأمر :

أحمل هذه... وأشارت إلى حقيبتها.

كان الأمر غريباً جداً بالنسبة لي، فهؤلاء الناس الذين يتعاملون بلباقة ليس لها مثيل، كيف تتعامل معي هذه السيدة بهذه الطريقة؟


أنا بدوري وبدون تفكير حملت لها حقيبتها وإتجهنا سوية إلى الحافلة.

ومن الطبيعي أن يكون مقعدي بجانبها لأنها كانت قبلي تماماً في الدور.

حاولت أن أجلس من جهة النافذة لأستمتع بمنظر تساقط الثلج الذي بدأ منذ ساعة وكأنه يقول وهو يمحو جميع ألوان الطبيعة معلناً بصمته الشديد: أنا الذي آتي لكم بالخير وأنا من يحق له السيادة الآن.


لكن السيدة منعتني من الجلوس بجانب النافذه وجلستْ هي من جهة النافذة دون أن تنطق بحرف واحد.

فرحتُ أنظر أمامي ولا أعيرها إهتماماً، إلى أن إلتفتتْ إليّ تنظر في وجهي وتحدّق فيه، وطالت إلتفاتتها نحوي دون أن تنطق ببنت شفة وأنا أنظر أمامي، حتى إنني بدأت أتضايق من نظراتها التي لا أراها لكنني أشعر بها فإلتفتُ إليها.


عندها تبسّمتْ قائلة: كنت أختبر مدى صبرك وتحمّلك !
صبري على ماذا ؟
على قلّة ذوقي، أعرفُ تماماً بماذا كنتَ تفكر.

قلت لها : لا أظنّك تعرفين بما كنت أفكر، وليس مهماً أن تعرفي !

قالت: حسناً، سأقول لك لاحقاً، لكن بالي مشغولٌ الآن بكيف سأردّ لك الدين.

قلت لها : الأمر لا يستحق، لا تشغلي بالكِ.

قالت : عندي حاجة سأبيعها الآن وسأردّ لك اليورو، فهل تشتريها أم أعرضها على غيرك ؟

قلت : هل تريدين أن أشتريها قبل أن أعرف ما هي؟

قالت : إنها حكمة، أعطني يورو واحداً لأعطيك الحكمة.

قلت لها : وهل ستعيدين لي اليورو إن لم تعجبني الحكمة؟

قالت : لا.. فالكلام بعد أن تسمعه لا أستطيع إسترجاعه، ثم إنّ اليورو الواحد يلزمني لأنني أريد أن أردّ به دَيني.

أخرجتُ لها اليورو من جيبي ووضعته في يديها وأنا أنظر إلى تضاريس وجهها.


لا زالت عيناها تلمعان كبريق عينيّ شابّة في مقتبل العمر، وأنفها الدقيق مع عينيها يخبرون عن ذكاء ثعلبي، مظهرها يدل على أنها سيدة متعلمة، لكنني لن أسألها عن شيء، أنا على يقين أنها ستحدثني عن نفسها فرحلتنا لا زالت في بدايتها، أغلقت أصابعها على هذه القطعة النقدية التي فرحت بها كما يفرح الأطفال عندما نعطيهم بعض النقود.

وقالت : أنا الآن متقاعدة، كنت أعمل مدرّسة لمادة الفلسفة، جئت من مدينتي لأرافق إحدى صديقاتي إلى المطار.

أنفقتُ كل ما كان معي وتركتُ ما يكفي لأعود إلى بيتي، إلاّ أنّ سائق التاكسي أحرجني وأخذ مني يورو واحدًا زيادة، فقلت في نفسي سأنتظر الحافلة خارج المحطة، ولم أكن أدري أنّ ذلك ممنوع.


أحببتُ أن أشكرك بطريقة أخرى بعدما رأيت شهامتك، حيث دفعت عني دون أن أطلب منك.

الموضوع ليس مادياً.

ستقول لي بأنّ المبلغ بسيط، سأقول لك أنت سارعت بفعل الخير ودونما تفكير.

قاطعتُ المرأة مبتسماً: أتوقع بأنكِ ستحكي لي قصة حياتك، لكن أين البضاعة التي إشتريتُها منكِ ؟ أين الحكمة؟
قالت : "فقط دقيقة".
قلت لها : سأنتظر دقيقة.
قالت لي : لا، لا، لا تنتظر." فقط دقيقة ".. هذه هي الحكمة !
قلت: لم أفهم شيئاً !

قالت: لعلّك تعتقد أنك تعرضتَ لعملية إحتيال؟
قلت: ربما!
قالت: سأشرح لك الحكمة هي "فقط دقيقة "

لا تنسَ هذه الكلمة أبداً، في كل أمر تريد أن تتّخذ فيه قراراً، عندما تفكر في أي مسألة في الحياة، وعندما تصل إلى لحظة إتخاذ القرار أعطِ نفسك "فقط دقيقه" دقيقة واحده إضافية، ستون ثانية لا غير.

هل تعلم كم من المعلومات يستطيع دماغك أن يعالج خلال ستون ثانية؟

في هذه الدقيقة التي ستمنحها لنفسك قبل إتخاذ قرارك قد تتغيّر أمور كثيرة ولكن بشرط واحد.

قلت: وما هو الشرط؟
قالت : أن تتجرّد عن نوازع نفسك، وتُودع في داخل دماغك وفي صميم قلبك جميع القيم الإنسانيّة والمُثل الأخلاقيّة دفعة واحدة وتعالجها معالجة موضوعية دون تحيّز.

فمثلاً : إن كنت قد قرّرت بأنّك صاحب حق وأنّ الآخر قد ظلمك، فخلال هذه الدقيقة وعندما تتجرّد عن نوازع نفسك ربّما تكتشف بأنّ الطرف الآخر لديه حق أيضاً، أو جزء من هذا الحق، وعندها قد تغيّر قرارك تجاهه.

إن كنت نويت أن تعاقب شخصاً ما، فإنّك خلال هذه الدقيقة بإمكانك أن تجد له عذراً فتخفّف عنه العقوبة أو تمتنع عن معاقبته وتسامحه نهائياً.

دقيقة واحدة بإمكانها أن تجعلك تعدل عن إتخاذ خطوة مصيريّة في حياتك لطالما إعتقدت أنّها هي الخطوة السليمة، في حين أنّها قد تكون كارثيّة.


دقيقة واحدة ربّما تجعلك أكثر تمسّكاً بإنسانيّتك وأكثر بعداً عن أهوائك وغرورك.

دقيقة واحدة قد تغيّر مجرى حياتك وحياة غيرك، وإن كنت من المسؤولين فإنها قد تغيّر مجرى حياة مجموعة كاملة من البشر!

هل تعلم أنّ كل ما شرحته لك عن الدقيقة الواحدة لم يستغرق أكثر من دقيقة واحدة؟

قلت لها : صحيح، وأنا قبلتُ برحابة صدر هذه الصفقة وحلال عليكِ اليورو.

بسطت يدها وقالت : تفضل، أنا الآن أردُّ لك الدين وأعيد لك ما دفعته عني عند شباك التذاكر.

والآن أشكرك كل الشكر على ما فعلته لأجلي.

أعطتني اليورو، تبسّمتُ في وجهها وإستغرقت إبتسامتي أكثر من دقيقة.

لأنتبه إلى نفسي وهي تأخذ رأسي بيدها وتقبل جبيني قائلة :

هل تعلم أنه كان بالإمكان أن أنتظر ساعات دون حل لمشكلتي.
فالآخرون لم يكونوا ليدروا ما هي مشكلتي، وأنا ما كنتُ لأستطيع أن أطلب اليورو من أحد!

قلت لها : حسناً، وماذا ستبيعيني لو أعطيتك مئة يورو؟
قالت : سأعتبره مهراً وسأقبل بك زوجاً!

علتْ ضحكاتُنا في الحافلة وأنا أُمثّلُ بأنني أريد النهوض ومغادرة مقعدي هرباً وهي تمسك بيدي قائلة : أجلس فزوجي متمسّك بي وليس له مزاج أن يموت قريباً!

وأنا أقول لها : "فقط دقيقة ".... "فقط دقيقة ".

لم أتوقّع بأنّ الزمن سيمضي بسرعة، حتّى إنني شعرت بنوع من الحزن عندما غادرتْ هي الحافلة عند وصولنا إلى مدينتها في منتصف الطريق تقريباً، وقبل ربع ساعة من وصولها حاولتْ أن تتّصل من جوّالها بإبنها كي يأتي إلى المحطة ليأخذها، ثم إلتفتتْ إليّ قائلة : على ما يبدو أنه ليس عندي رصيد.

فأعطيتها جوالي لتتصل.

المفاجأة أنّني بعد مغادرتها للحافلة بربع ساعة تقريباً إستلمتُ رسالتين على الجوّال، الأولى تفيد بأنّ هناك من دفع لي رصيداً بمبلغ يزيد عن ١٠ يورو.

والثانية منها تقول فيها : كان عندي رصيد في هاتفي لكنني إحتلتُ عليك لأعرف رقم هاتفك فأجزيكَ على حسن فعلتك، إن شئت إحتفظ برقمي، وإن زرت مدينتي فإعلم بأنّ لك فيها أمّاً ستستقبلك.

فرددتُ عليها برسالة قلت فيها :

عندما نظرتُ إلى عينيكِ خطر ببالي أنّها عيون ثعلبيّة، لكنّني لم أجرؤ أن أقولها لك.

أتمنى أن تجمعنا الأيّام ثانية، أشكركِ على الحكمة وإعلمي بأنني سأبيعها بمبلغ أكبر بكثير.



أعزائي...


"فقط دقيقة" حكمة أهديها لكم، فمن يقبلها مني في زمن نهدر فيه الكثير من الساعات دون فائدة؟



#خبريّة وعبرة
/خدّام الرب/

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.