02 Aug
02Aug


يستغل عدوّ الخير كلمات السيّد بخصوص عدم مغفرة التجديف على الروح القدس لتحطيم بعض النفوس، فيشكِّكها أنه قد مرّ على فكرها تجديفًا على الأرواح ليُغلق أمامها باب الرجاء في الخلاص! وإذ عانى القديس أغسطينوس كأسقف من هذا الأمر وسط شعبه أراد أن يبعث فيهم روح الرجاء محطّما كل تشكيك شيطاني، فبدأ بتأكيد أن كل إنسان معرّض لفكر تجديف، إن لم يكن بالنطق بكلمة تجديف خاصة قبل إيمانه. 


فهل يُغلق باب الخلاص أمام الجميع؟

يقول القديس أغسطينوس:

"من ذا الذي لم يخطئ بكلمة ضدّ الروح القدس قبل كونه مسيحيًّا أو قبل كونه تابعًا للكنيسة الجامعة؟" 


١. الوثنيون :

أليس الوثنيّون الذين يعبدون آلهة كثيرة باطلة، ويسجدون للأصنام، ويقولون بأن الرب يسوع صنع معجزاته بقوة السحر، يكونون كمن قالوا بأنه برئيس الشيّاطين يُخرج الشيّاطين، وإذ يجدّفون على مقدّساتنا يوميًا... ألا يكون ذلك تجديفًا على الروح القدس؟!


٢. اليهود :

أليس اليهود بنطقهم تلك الكلمات أثاروا المناقشة التي أعالجها؟! ألا ينطقون إلى اليوم بكلمة تجديف ضدّ الروح القدس بإنكارهم حلوله في المسيحيّين؟!


لقد أنكر الصدّوقيّون الروح القدس، أمّا الفرّيسيّون فلم ينكروه مؤكِّدين وجوده، لكنهم أنكروا علاقته بالرب يسوع المسيح، إذ حسبوه برئيس الشيّاطين يُخرج الشيّاطين مع أنه أخرجها بالروح القدس.


٣. الهراطقة :

كل من اليهود والهراطقة الذين يعتقدون بوجود الروح القدس ينكرون علاقته بجسد المسيح، أي كنيسة الواحدة الوحيدة الجامعة، هؤلاء بلا شك كالفرّيسيّين الذين رغم إعترافهم بوجود الروح القدس إلاّ أنّهم أنكروا وجوده في السيّد المسيح، ناسبين إخراج الشيّاطين إلى كونه رئيسًا للشيّاطين...

لقد إتّضح أن كلًا من الوثنيّين واليهود والهراطقة قد جدّفوا على الروح القدس، فهل يُهمل هؤلاء، ويفقدون الرجاء بحسب العبارة "وأما من قال كلمة على الروح القدس فلن يغفر له، لا في هذا الدهر، ولا في الآتي".

هل لا يمكن أن يوجد من لم يجدّف على الروح القدس إلا المسيحي الذي نشأ منذ طفولته في الكنيسة الجامعة؟

حقًا إن كل الذين آمنوا بكلمة الله وتبعوا الكنيسة الجامعة، سواء كانوا وثنيّين أو يهودًا أو هراطقة، نالوا نعمة المسيح وسلامه.

فلو لم يكن لهم غفران عن الكلمات التي تفوّهوا بها ضدّ الروح القدس لكان وعدنا لهم وتبشيرنا بالرجوع إلى الله لينالوا السلام وغفران الخطايا أمرًا باطلًا... لأن العبارة لم تقل :

"لا تُغفر إلا بالمعموديّة" بل قال "لا يُغفر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي".


٤. المسيحيّون :

قد يظن البعض بأنه لا يخطئ إلى الروح القدس غير الذين إغتسلوا في جرن الولادة الجديدة، فخطيتّهم هذه تكون بجحدهم العطيّة العُظمى التي وهبهم المخلّص إيّاها، ملقين بأنفسهم ـ بعد نوالهم العطيّة ـ في الخطايا المهلكة كالزنا والقتل والإرتداد عن المسيحيّة أو عن الكنيسة الجامعة... ولكن كيف يمكننا أن نُبرهن على صحّة هذا؟ إنّني لا أستطيع القول بهذا، لأن الكنيسة لن ترفض التوبة عن أي خطيّة كانت.

والرسول بولس يقول بأنه يمكن توبيخ الهراطقة (أي المسيحيّين الذين إنحرفوا) لأجل نوالهم التوبة :

"عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق، فيستفيقوا من فخ إبليس إذ قد اِقتنصهم لإرادته"

(٢ تي ٢: ٢٥-٢٦).

وما الفائدة من إصلاحهم إن لم يكن لهم رجاء في نوال المغفرة؟ كذلك لم يقل الرب :

"المسيحي المعمَّد الذي يقول كلمة على الروح القدس"، بل قال "وأما من قال كلمة..."أي من قال كلمة سواء كان وثنيًا أو يهوديًا أو مسيحيًا أو هرطوقيًا.


رابعًا : هل يقصد بالتجديف المعنى الشامل، أم معنى خاص؟


بعد أن أكّد القديس أغسطينوس  أن أبواب مراحم الله مفتوحة للجميع حتى الذين تعرّضوا للتجديف على الروح القدس سواء قبل الإيمان بالسيّد المسيح من اليهود أو أمم أو حتى بعد الإيمان مثل السقوط في هرطقات ضدّ الروح القدس أو اِرتكاب خطايا مرّة، بدأ يوضّح كلمات السيّد المسيح عن "التجديف على الروح القدس" في العبارة التي بين أيدينا ليظهر أنه لا يقصد المعنى الشامل، أي كل تجديف ضدّ الروح القدس وإنما يقصد معنى خاصًا.

يقول القديس أغسطينوس:


لم يقل الرب "لا يُغفر كل تجديف على الروح" أو "من قال أيّة كلمة" بل "وأما من قال كلمة". فلو ذُكرت كلمة "كل" لما أمكن للكنيسة أن تحتضن الخطاة والأشرار والمقاومين لتعطيهم المسيح ومقدّسات الكنيسة، سواء كانوا يهودًا أو أمميّين أو ثنيّين أو هراطقة... أو حتى الضعفاء من المسيحيّين الذين ينتمون للكنيسة الجامعة نفسها. حاشا أن يكون ذلك هو قصد الرب!


أقول، حاشا أن يقول الرب "كل" أو "أي" تجديف أو كلمة على الروح القدس ليس لها مغفرة... إذن فبلا شك توجد تجديفات وكلمات معيّنة لو قيلت على الروح القدس لا يكون لها غفران. فما هي هذه الكلمة؟ هذه هي إرادة الله أن نسأل هذا السؤال ليوضّحه لنا؛ إرادته أن نسأله لا أن نعترض على كلامه.


غالبًا ما يستخدم الكتاب المقدّس هذه الطريقة، وهي أن يعبّر عن أمر ما دون تحديد إن كان يقصد به معنى عامًا أم خاصًا، وبذلك لا توجد ضرورة ملزمة لفهمه بالمعنى العام أو الخاص؛ فهو لا يستخدم كلمة "كل" ولا "بعض"؛ لا يتحدّث بصيغة عامة ولا صيغة خاصة.


أمثلة :


أ. لكي يظهر لكم ذلك بأكثر وضوح تأمّلوا قول الرب نفسه عن اليهود: "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطيّة" (يو ١٥: ٢٢).

هنا لم يحدّد المعنى، كما لو أنه قصد بأن اليهود ما كان لهم أي خطيّة لو لم يكن قد جاء المسيح وكلّمهم.

لكن الحقيقة هي أنه جاء ووجدهم مثقّلين بالخطايا (مت ١١: ٢٨، رو ٥: ٢٠، مت ٩: ١٣)... فكيف إذن لو لم يكن قد جاء المسيح لم تكن لهم خطيّة...؟ إنه لم يقل "أيّة خطيّة" لئلا يكذب الحق، ولا قال بصيغة محدّدة "بعض خطايا معيّنة" لئلا لا نتدرّب على الشغف بالبحث.

فإن الكتاب المقدّس غني بالأجزاء الواضحة لكي نتغذى بها والأجزاء الغامضة لكي نتدرّب بها. بالأولى يُنزع الجوع والثانية ننال اللذّة.

إذ نعود إلى قوله نجد أن اليهود بالضرورة إرتكبوا بعض الخطايا، لكن ليس جميعها، هذه التي لم تكن موجودة قبل مجيئه وهي إنكار الإيمان به... فبقوله "لم تكن لهم خطيّة" لا نفهمها بمعنى "لم تكن لهم أيّة خطيّة"، وإنما بعضها. كذلك إذ نسمع إنجيل اليوم "التجديف على الروح القدس لن يغفر" لا نفهمه على أنه كل تجديف بل أنواع معيّنة منه...


ب. وإذ قيل "الله لا يجرِّب أحدًا" (يع ١: ٣)، لا يفهم أن الله لا يجرِّب أحدًا بأي نوع من التجارب بل لا يجرِّبه بأنواع معيّنة، لئلا يكون المكتوب باطلًا: "الرب إلهكم يمتحنكم (يجرّبكم)" (تث ١٣: ٣).

فالله لا يجرِّبنا بالتجربة التي تقودنا للخطيّة، لكنّه يهبنا أن نُجرَّب بالتجربة التي بها يمتحن إيماننا.


ج. وهكذا أيضًا عندما نسمع: "من آمن واِعتمد خلص" (مر ١٦: ١٦)، بالطبع لا نفهمها على كل من يؤمن أيّا كان إيمانه، "فالشيّاطين يؤمنون ويقشعرٌّون" (يع ٢: ١٩). 

ولا نفهمها على كل من إعتمد، فسِيمون الساحر بالرغم من قبوله المعموديّة إلا أنه لم يكن ممكنًا أن يخلُص... فقوله "من آمن واِعتمد" لم يقصد به جميع الذين يؤمنون ويعتمدون، بل بعضهم، هؤلاء الراسخون في ذلك الإيمان الذي يوضّحه الرسول بأنه "العامل بالمحبّة" (غل ٥: ٦)...


خامسًا : ما هو المعنى الخاص الذي قصده بالتجديف على الروح القدس؟


يفسر القديس أغسطينوس أن ما قصده الرب هنا هو "الإصرار على عدم التوبة" حتى آخر نسمة من نسمات حياتنا.

يقول بأن الروح القدس هو روح الآب والإبن، من خواصه الشركة بين الأقنومين، كما أنه هو الذي يعطينا الشركة مع الله، إذ به تنسكب محبّة الله فينا، فتستر خطايانا، بهذا فإن عمله هو غفران الخطايا ومصالحتنا مع الله.

ومن ناحية أخرى فإن الروح هو الذي يعطي الشركة بين أعضاء الكنيسة الواحدة في الرب، وهو الذي يهب العضو التوبة والتبكيت كما يعطي للكنيسة حق حلّ خطاياه... إذن عمل الروح القدس في حياتنا هو التوبة لنوال الحلّ... فالتجديف هو الإصرار على عدم التوبة وبالتالي الحرمان من العضويّة الكنسيّة الحقيقية.


إرحمنا يا رب وأعطِ أفواهنا نعمة تسبيح وتمجيد إسمك القدوس. آمــــــــــــين.


/خادم كلمة الرب/

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.